في 14 فبراير رحل أحد رموز الموسيقى المصرية والعربية، الملحن زكريا أحمد، وهو مواليد سنة 1896، لأب حافظ للقران وهاوٍ لسماع التواشيح مما أكسب الطفل الناشئ الحس الموسيقي، الذي لازمه ونمى معه فأصبح المسيطر على وجدانه.
تربى زكريا أحمد تربية دينية، فحفظ القرآن المجيد وألم ببعض علومه، ولكن الموسيقى كانت تسري في دمه فلم يستطع مقاومتها فانضم، كمذهبجي للشيخين علي محمود وإسماعيل سكر، وأمضى معهما وقتاً طويلاً ثم تتلمذ لأستاذ الشيخ درويش الحريري حيث تلقن فن الموشحات وأتقنها.
ويقول المؤرخ الموسيقي فكري بطرس، في كتابه “أعلام الموسيقى والغناء العربي”: مات زكريا أحمد من عدة سنوات ولكن الألحان الخالدة التي خلفها من عصارة قلبه وإحساساته الفياضة لن تموت أبدًا، التراث الذي أنشأه و ترکه يخفق في صدور عشاق الموسيقى الشرقية الأصيلة وفي صدور المؤمنين بعراقة حياتنا وبراعة فنوننا.
سطوع نجم زكريا أحمد
كانت الصحافة مهتمة للغاية بما يقدمه الرجل، وكتبت عنه بكثافة، ومما كتبه عنه في هذه الفترة نذكر أحد المقالات التي نشرت في عام 1939، أي بعد تألق نجم زكريا أحمد خاصة في تعاونه مع أم كلثوم الذي بدأ في مطلع الثلاثينيات، حيث كتب الأديب محمد سيد المويلي في مجلة الرسالة “زكريا أحمد واجهة الفن”، ووصفه قائلاً: “إنه يعبد الحرية ويقدمها ولا يهمه في الدنيا إلا فنه وقلبه”.
وشرع الكاتب في وصف أخلاقيات ومبادئ الشيخ زكريا أحمد الجليلة من وجهة نظره، فقال عنه إنه لا يلحن للمال أو للفخر بل يلحن لقلبه وحبه ووحيه الذي يترجم أسمى ما في العواطف من نبل ونور، ويقول أيضاً: “آنس زكريا من نفسه المقدرة فرأى أن ينفصل عن الشيخ علي محمود ليكون ملحناً فأخرج السحر الحلال الذي جمع حوله جمهرة المطربين والمطربات يأخذون منه وهو البحر الذي لا ينضب والفنان الذي لا يعجز”.
ووصفه بأنه ملك “الصبا”، وهو أحد المقامات الموسيقية، الفريدة جدًا من نوعها، فهو في الحقيقة ناقص علمياً، وسلمه يفترض أن يكون غير صحيح، فكل سلم موسيقي لا بد وأن ينتهي بنفس النوتة التي بدأ منها، إلا مقام الصبا، فقراره لا يماثل جوابه، وهذا يجعله متفرداً، كما أنه يعبر وبدقة عن المشاعر والعواطف وهو اللحن المسيطر على النفوس، كما قال المويلحي.
وتمتاز طقطوقات وألحان زكريا أحمد بروحها الشرقية البحتة، كما قال المويلحي، وأضاف: “هو فنان موهوب لم يتعلم في مدرسة ولا معهد وإنما نشأ كما ينشأ العبقري، يعزف على العود سماعياً لا يعرف النوتة الغربية، وألحانه لا يوجد بها مزج أو خلط أو سرقة ولم يعرف عن ملحن أو موسيقى أنه اختلط بالمرحوم سيد درويش زعيم المدرسة الحديثة فنال حبه وملك قلبه كزكريا وإنك لتجد تشابهاً عجيباً في روحيهما ونظرتيهما للحياة”.
وبالإضافة للأهمية التاريخية لموسيقى الشيخ زكريا أحمد، فإن تعاونه مع كوكب الشرق أضاف لهما أهمية أخرى، حيث يحتل في التسلسل التاريخي لملحني أم كلثوم المركز الرابع، ومع ذلك فإن دوره في إبراز عبقريتها الغنائية كان أساسياً ويرجع أو لقاء بينهما إلى يونيو 1919، في بلدة السنبلوين دقهلية، وهو الذي أقنع والدها الشيخ إبراهيم بأهمية انتقالها إلى القاهرة واحتراف الغناء، والانتقال من الإنشاد الديني إلى الإنشاد الدنيوي.
ولحن زكريا أحمد لأم كلثوم 60 أغنية من الصيغ والقوالب الموسيقية المختلفة كان أولها “يالي حبك يا هناه”، في مطلع الثلاثينيات، وعما أحدثته أم كلثوم عليه كتب زكريا وقال: “أصبحت مفتوناً بها لأنني أحببتها حب الفنان للحن الخالد”، بحسب ما جاء في كتاب “تطور الموسيقى والطرب في مصر الحديثة” لعبدالمنعم إبراهيم الجميعي.