لم يكن الصوت النسائي خافتًا في تاريخ الفن، سواء المسرح أو السينما أو الغناء، بل كان جنبا إلى جنب مع صوت الرجل، ورغم تواجد أصوات مبكرة اعتلت عرش الغناء، مثل منيرة المهدية وأم كلثوم -التي أصبحت كوكب الشرق وكانت نقيب الموسيقيين- وأسمهان وليلى مراد وغيرهن فيما بعد من أجيال أتت، تغير فيها اللون الغنائي وشكله، ولكن متى سمعنا المرأة تتحدث عن ذاتها، فكرها، مشاعرها، حقوقها، ما تحتاج، أو كيف تفكر تجاه المجتمع، جميعها أسئلة مختلفة تحتاج إلى تفكيك وتفصيل.
• متى بدأت الأغنية المعبرة عن المرأة؟
لا يمكن تحديد تاريخ معين نستطيع القول فيه هنا متى بدأت الأغنية التي تحاول أن تعبر عن مشاكل المرأة وذاتها، لكن يمكن النظر لما قدم في عصور مختلفة.
في النصف الأول من القرن العشرين، ظهر سيد درويش وأحدث نقلة نوعية في الموسيقى المصرية، وكما قدم موسيقى مختلفة ومتطورة، قدم أغنيات ذات مضامين تحمل أفكار هذه المرحلة، إلى جانب مفاهيم المواطنة والتحرر والدعوة للاعتزاز بالوطن ظهرت أغنيات عن المرأة ودعوات تحررها وخروجها للعمل، والمطالبة بممارسة حقوقها، ومن أمثلة ذلك طقطوقة “بنت مصر” التي قدمها الثنائي بديع خيري وسيد درويش.
والطقطوقة التي أدتها المطربة حياة صبري، التي قيل إن سيد درويش هو من تبناها فنيًا، تبدأ بسؤال استنكاري: «ده بأف مين اللي يألس على بنت مصر بأنهي وش؟»، وكانت كلمة «بأف» شائعة بين عامة المصريين في هذا التوقيت وتشير إلى الشخص «النكرة» الذي لا أهمية لرأيه.
ومن كلمات الأغنية:
البنت تفضل محبوسة
قال جوه بيتها يكون أظبط
لحد ما تبقى عروسة
بدال ما تفضل تتنطط
العفو العفو
وفي عام 1923، لحن سيد درويش استعراض “بنت اليوم”، الذي كان جزءا من رواية “الانتخابات” من تأليف أمين صدقي، وتقديم فرقة علي الكسار، وهي آخر المسرحيات التي شارك فيها سيد درويش قبل وفاته.
وتقول بعض أجزاء الأغنية:
ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم
قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم
وطالبي بحقوقك واخلصي من اللوم
ليه مانكونشي زي الغربية
ونجاهد فى حياتنا بحرية
وتعد ذلك الأغاني ذات المضامين الداعمة للمرأة جديدة على المجتمع وعلى الفن أيضًا، صاحبت ثورة 1919، فقبل ذلك كان الصوت النسائي موجود أيضا، ولكن بمضامين تعمل على تسليع المرأة دون النظر إلى أفكارها ومشاعرها ومطالبها.
ومن النماذج الأخرى التي أتت بعد مدة زمنية طويلة، ما قدمته الفنانة سعاد حسني، رغم أنها في الأساس ممثلة وليست مطربة، إلا أنها قدمت نموذجين لهذا النوع، الأول كان بسيط والثاني أعلن بصوت عالي “البنت زي الولد.. ماهيش كمالة عدد”.
كانت الأغنية الأولى “أوبريت” استعراضي في فيلم “صغيرة على الحب”، عندما غنت عما تحلم به الفتاة الصغيرة عندما تصبح شابة في العشرين من عمرها، وأدت فيه السندريلا شخصية الطفلة والشابة، فتطلب من ساحر أن يحولها لفتاة لمدة يوم حتى تلتقي بحبيب.
ينقسم الأوبريت لأكثر من جانب، منها ما عبرت فيه عن أمنية فتاة صغيرة، والثانية عندما التقت الفتاة بالواقع وهي شابة وشاهدت فتيات فشلن في علاقتهن العاطفية وتعبرن عن ذلك قائلات: “يا صيادين بحر الهوى شفتوش مرجانة؟ وتكون غريبة زينا تايها وشاريانا، ويكون باعتها اللي غدر بالحب ورمانا”.
وعن المشاعر المبكرة للأنثى وكيفية مقابلتها بالغدر أحيانا إذا سبقت أوان نضجها، تدور فكرة الأوبريت بشكل عام.
أما الأغنية الثانية، فكانت ضمن حلقات المسلسل المنفصل المتصل “هو وهي”، وتدور أحداثه عن العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال مجموعة قصص مختلفة، وفي إحدى حلقات المسلسل تواجه معلمة الموسيقى -سعاد حسني- زميلها الذي يعامل الفتيات بإهانة وشدة، فتقوم بغناء وسط تلميذاتها.
البنات البنات ألطف الكائنات
غنوا يا تلميذات.. تافاتيفى تاتاتا
قولوا يا بختنا.. يا بختنا يا بختنا
قد إيه كلنا.. كلنا كلنا
فرحانين إننا اتولدنا بنات
تسرد الأغنية مهارات الفتيات وصفاتهن وأنه لا يوجد فرق بينهن وبين البنين، ونتذكر هنا أن كاتب الأغنيتين هو الراحل صلاح جاهين.
• التحدي والقوة والتعبير عن الذات
ربما المستمع تمر عليه كلمات الأغاني في عصرنا الحالي مستسيغا لها، وربما لديه شعور بالغربة نحوها، وذلك وفق ثقافته وعُمره وبيئته، ولكن المتتبع والملاحظ سيجد أن هناك شيء جديد ومختلف، ربما لم تعد الأغنية تتمحور حول الحب دائماً، وإنما أشياء أخرى كثيرة لا يسعنا المجال للحديث عنها، فنحن هنا نتحدث عن أحدها فقط وهي النسوية.
“اللي قادرة على التحدي وعلى المواجهة.. اللي قادرة، في وقت خوفها تعلن احتجاجها”، هكذا طلت علينا المطربة المصرية آمال ماهر بأغنية تعلن رفض الأنثى الانصياع وراء أي شيء دون اقتناع به، وارتبطت الأغنية بقصة مسلسل “ليه لا” الذي تدور أحداثه حول فتاة تحاول التخلص من سيطرة والدتها وتحكمات المجتمع.
وهناك نماذج كثيرة حالياً للمحتوى الغنائي الذي يمكن أن نطلق عليه “نسوي”، من خلال محاولته التعبير عن المرأة في صورة أقوى، مثل ما قدمته سميرة سعيد في أغنيات “محصلش حاجة” و”قط وفار”، وإليسا في “صاحبة رأي” و”هعتبرك مت”، وشيرين عبدالوهاب “تاج راسك”، تعلن بكلماتها الاحتجاج على تسلط الرجل، وغيرها من النماذج.
والمطربة كارول سماحة في أغنيتها “المطلقة”، الصادرة عام 2019 تحدثت فيها عن مشاعر المرأة بعد الطلاق ونظرة الناس لها خاصة الرجال، وهي عبارة عن قصيدة من كلمات الشاعر اللبناني علي المولى، الذي أعلن أنه لن يتوقف عن تقديم مثل هذه المواضيع في أغنياته المقبلة، خلال حوارات صحفية كثيرة، وتقول بعض كلماتها:
حكم علي بالوحدة
والجريمة مطلقة.. حَيك الناس لي
من ألسنتهم مشنقة
وصار لقبي المطلقة
ممنوعة أن أعشقَ
للاستعمال السريري فقط
مع شهادة خبرة مصدقة
كما قدمت الفنانة المصرية سمية الخشاب أغنية “بستقوى”، التي عرضت من خلالها مشكلة العنف المنزلي ضد المرأة تحديداً من الزوج، وهي من كلمات هشام صادق، وحرص الفيديو كليب الخاص بالأغنية أن يظهر آثار الضرب على وجه المطربة، مع الاستعانة بمشاهد تمثيلية أخرى لضرب رجل لزوجته أمام أبنائه، ومن الملاحظ أن أغلب كُتاب هذه الأغاني رجال.
• هل تعبر الأغنية عن المرأة بشكل حقيقي؟
قضايا المرأة متنوعة وكثيرة، وترتبط بشكل مباشر بمعتقدات المجتمع وأفكاره التي شكلت قوالب وأنماط معينة يريد منها أن تسير داخلها، وربما كانت الأعمال المختلفة التي قُدمت ولازالت تقدم تعبر عن جوانب ترتبط بمشاعر المرأة ثورتها وغضبها وتفكيرها، ولكن هل عبرت عن مشاكلها الحقيقية؟
يقول الناقد الموسيقي محمد شميس: “الموضة تحكم كثيراً، لذلك يوجد أشياء تظهر لأجل المواكبة، على سبيل المثال آمال ماهر بأغنيتها (اللي قادرة)، فهي مطربة ليس لديها شخصية غنائية أو نموذج، ولكن من نستطيع رؤية شخصيتها ورؤيتها فيما تقدم سميرة سعيد، التي تتعامل في علاقتها مع الرجل بندية، وخلال نصف قرن من الغناء تقدم نموذجا قويا حتى في ضعفها، وأيضاً إليسا تشارك في فعاليات نسوية ولديها آراءها الخاصة، والمفردات المستخدمة في هذه الأغنيات معبرة عن الجيل الحالي وتفكيره بل ابنة العصر”.
أضاف شميس: “يمكن اعتبار كثير من الأغنيات أنها غير معبرة عن قضايا المرأة الحقيقية، وإنما هي منساقة وراء موضة (الفيمينست)، لكنها لا تقدم أشياء تمس الواقع، مثل موضوعات الغارمات أو المطلقات أو حقوق الميراث المهضومة أو التحرش أو العنف الجسدي، هذه هي المواضيع الحقيقية، ونحن لا نناقشها، وأغلب الأغنيات تدور في فلك علاقة الرجل بالمرأة فقط، تتغير المفردات والكلمات ففي النهاية قضايا تتعلق بمشاعر كلا الطرفين”.
• معنى النسوية وما تعبر عنه
النسوية ليست حركة أحادية صماء، لكنها تيارات شتى منها ما اتفق ومنها ما اختلف سواء من حيث المبادئ أو المنهج، فمنها ما هو مستمد من أدوات تحليلية ماركسية ومنها ما هو قائم على التحليل النفسي لفرويد، والمتحدثات عن النسوية في الغرب قد يختلفون عن الأمريكيات، كما جاء في كتاب “النسوية وما بعد النسوية” لسارة جامبل.
والتعريف العام للنسوية يشير إلى أنها الاعتقاد بأن المرأة لا تعامل على قدم المساواة -لا لأي سبب سوى كونها إمرأة- في المجتمع الذي ينظم شؤونه ويحدد أولوياته حسب رؤية الرجل واهتماماته في ظل نظام أبوي، ويشير مصطلح الأبوي إلى علاقات القوة التي تخضع في إطارها مصالح المرأة لمصالح الرجل وتتخذ هذه العلاقات صوراً متعددة يقوم أساسها على الجنس والفروق الجنسية البيولوجية.
والفيلسوف الإنجليزي “جون ستيوارت مل”، يلخص قضية النسوية في أنها إدانة لمبدأ الذي ينظم العلاقات الاجتماعية القائمة بين الجنسين، والكشف عن أنه مبدأ فاسد من جذوره، لأنه يقوم على أساس تبعية أحد الجنسين “المرأة” للجنس الآخر “الرجل”، وهو مبدأ يجب أن يحل محله المساواة الكاملة، وذكر هذا المفهوم في كتاب “أقدم لك النسوية” لسوزان ألس.
إلا أن المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه “قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى”، قدم مفهوم الفيمينزم مرة أخرى، وحاول أن يفرق بينه وبين حركات التحرير الأخرى، وحركة تحرير المرأة على وجه الخصوص، ثم فرق المسيري بين كل من المصطلحين “Feminism” و”women’s liberation movement”، ولم ير أن كلمة فينيزم مجرد تطور أو تنويع أو مرحلة جديدة من حركات تحرير المرأة.
ويقول المسيري: “لقد حل المصطلح الجديد تدريجياً محل القديم وكأنهما مترادفان أو متقاربنا في المعنى، وكأن المصطلح الجديد لا يختلف عن القديم إلا في أنه أكثر شمولا أو أكثر راديكالية، ولكننا لو دققنا لوجدنا أن المصطلح الجديد مختلف تماماً عن مدلولات حركة تحرير المرأة، وهي واحدة من حركات التحرر القديمة التي تدر في إطار إنساني هيوماني”.
وهو ما يمكن عكسه على الأغنية ففي القديم كانت كلمات الأغاني تعبر عن حقوق المرأة مثل المساواة “البنت زي الولد”، بينما في الوقت الحالي ربما تطرح فكرة أكثر تمركزاً حول الأثنى غير المبالية بالرجل بل في صراع معه.